حرب الروايات في غزة- تشويه المقاومة وتبرير الاحتلال الإسرائيلي.

تعتبر حرب الروايات والقصص والصور إحدى ساحات المعركة الأساسية في الصراع الدائر في غزة، فهي تشكل حيزًا بالغ الأهمية لتحديد الطرف المصيب والمخطيء، وبالتالي تحديد من يستحق التأييد والدعم، ومن يستحق الانتقاد والرفض. ولهذا السبب، كثّف الاحتلال جهوده منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية وتوجيه الاتهامات الباطلة لها، وفي المقابل، لم تتوقف مساعي بعض الجهات الفلسطينية والعربية للأسف الشديد، عن تشويه هذه المقاومة ووضع نضالها في سياقات بعيدة عن الواقع.
معركة الرواية
منذ بدء الاحتلال لفلسطين وإعلان ما يسمى بدولة "إسرائيل" عام 1948، بل وقبل ذلك بعقود، أصبحت حرب الروايات جزءًا لا يتجزأ من كفاح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، جنبًا إلى جنب مع أشكال المقاومة المتنوعة المباشرة للاحتلال، سواء كانت شعبية أو سياسية أو عسكرية.
مع اندلاع عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم يغير الاحتلال من أساليبه المعهودة، بل أطلق العنان لسيل من الادعاءات الكاذبة والافتراءات الكبيرة المتعلقة بالمعركة؛ بهدف أساسي وهو تشويه صورة المقاومة وإدانة أفعالها، مثل الادعاء بقطع رؤوس الأطفال، وحرق جثث القتلى، واغتصاب النساء.
لقد أدركت الحركة الصهيونية مبكرًا الأهمية القصوى لهذه المعركة، خاصة في السنوات الأولى من التأسيس، حيث كانت وسائل الإعلام محدودة، وكان من السهل السيطرة على معظمها، وبالتالي توجيه الرأي العام العالمي. لهذا السبب، سعت الحركة الصهيونية إلى بناء سردية بديلة تهدف إلى منع أي تعاطف أو تضامن مع الشعب الفلسطيني، واحتكار الدعم والتأييد لدولتها الوليدة.
وهكذا، قامت السردية الجديدة والمزيفة بطبيعة الحال على فكرة أن "اليهود خاضوا حرب استقلال" ضد "الاحتلال البريطاني" على أرض فلسطين، وأنهم شعب مظلوم عانى طويلًا قبل أن يعود "إلى أرض آبائه وأجداده" أو "أرض الميعاد". وزعمت هذه السردية أن هذه الأرض كانت – ويا للغرابة – خالية من السكان الأصليين والشعب الذي يقطنها، لتصبح المعادلة في نهاية المطاف "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
لاحقًا، مع تطور أساليب النضال الفلسطيني وتنوع المشهد الإعلامي الذي كسر هذا الاحتكار، وعندما اضطرت دولة الاحتلال للاعتراف بالشعب الفلسطيني، قامت بوضعه مرة أخرى في سياقات وسرديات مضللة وكاذبة؛ من قبيل الادعاء ببيع الأراضي و"المغادرة الطوعية"، وصولًا إلى تهمة الإرهاب التي لاقت رواجًا كبيرًا في العقود التي تلت تأسيس "إسرائيل" لأسباب معروفة.
ومع انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، لم يحِد الاحتلال عن نهجه المعتاد، بل أطلق عددًا كبيرًا من الادعاءات الكاذبة المتعلقة بالمعركة؛ بهدف تشويه المقاومة وإدانة أفعالها، مثل الادعاء بقطع رؤوس الأطفال، وحرق جثث القتلى، واغتصاب النساء، واستهداف الحفل الغنائي، وغيرها من الأكاذيب. هدفت هذه السرديات إلى صرف الأنظار عن المشكلة الأساسية المتمثلة في الاحتلال، وإدانة المقاومة ووصمها بالإرهاب وحرمانها من أي تعاطف أو تضامن، بالإضافة إلى إضفاء الشرعية وتبرير جرائم الحرب التي كانت الآلة العسكرية للاحتلال تخطط لارتكابها.
لكن هذه المساعي باءت بالفشل لاحقًا، وذلك بفضل انكشاف زيف هذه البروباغندا من جهة، وتعرية الوجه القبيح للاحتلال وجرائمه من جهة أخرى، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى القول من على منبر الأمم المتحدة: إن "السابع من أكتوبر/تشرين الأول لم يأتِ من فراغ"، معيدًا المشكلة إلى سببها الرئيسي؛ ألا وهو الاحتلال وليس ردة الفعل عليه؛ أي المقاومة.
اتهامات متتالية
بالتوازي مع جهود الاحتلال، كانت هناك مساعي مماثلة من أطراف أخرى سعت أيضًا لتشويه صورة المقاومة، وتحديدًا حركة حماس. وإذا كانت أهداف الاحتلال واضحة ومفهومة – حتى وإن لم تكن مقبولة – فإن أهداف "الآخر" كانت في سياقات مختلفة ولأهداف متباينة، لكنها في النهاية كانت تعتمد على سرديات متشابهة وأحيانًا متطابقة مع سرديات الاحتلال.
كانت هناك سرديات تتعلق بأصل المشروع وشرعيته، مثل الادعاء بأن "الموساد" الإسرائيلي هو من أسس حركة حماس؛ بهدف ضرب منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى الرغم من سطحية هذا الادعاء ووضوح افترائه، وعلى الرغم من أن الحركة الفلسطينية خاضت مع الاحتلال أربع حروب وعددًا كبيرًا من جولات التصعيد، فضلًا عن الحرب الشاملة الحالية، إلا أنه لا يزال حاضرًا لدى بعض الدوائر ويتم استعادته بين الحين والآخر.
وهناك أيضًا سرديات انتشرت في فترات سابقة في محاولة للتناغم مع الحملات الإعلامية التي تدور في فلك بعض الأنظمة؛ من قبيل الادعاء بامتثال حماس لأوامر إيران، حيث انتشر حينها هتاف "شيعة شيعة" في بعض المظاهرات المصطنعة والمنسوجة مخابراتيًا.
أما السردية الأكثر انتشارًا والتي سادت في المرحلة التي سبقت معركة "طوفان الأقصى"، فهي أن الحركة قد تم ترويضها وتركت المقاومة؛ من أجل المال واستدامة الحكم وإدارة شؤون القطاع، وهي سردية تكررت في سنوات سابقة بعد كل مواجهة مع الاحتلال، ثم لاقت رواجًا في المواجهات التي حصلت مؤخرًا بين الاحتلال وحركة الجهاد الإسلامي في غزة، وكانت مشاركة حماس فيها محدودة أو رمزية.
مع عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اتضح سبب سلوك حماس هذا، فسقطت هذه السردية، سردية الترويض والتخلي عن المقاومة، لتحل مكانها سردية "التهور" والقتال دون تقدير للعواقب وردة فعل الاحتلال، وعدم الاكتراث بمصير عموم الشعب، وبالتالي تحميل المقاومة، وتحديدًا حركة حماس، وليس الاحتلال، مسؤولية الدماء والدمار. وهي سردية تتجاهل المسؤولية المباشرة للاحتلال باعتباره المنفذ المباشر للمجازر، وتفترض – دون وجه حق – أن عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول تستحق ردة فعل بمقياس الإبادة القائمة، وتتجاهل أن الاحتلال قائم في تاريخه وحاضره على مجازر وجرائم بذرائع وبدونها.
الآن، مجددًا، يعود إلى الواجهة الادعاء بأن المقاومة خاضت الحرب الحالية خدمة لـ "أجندات خارجية" والمقصود بها إيران، على الرغم من أن كلًا من الأخيرة وحزب الله والولايات المتحدة ودولة الاحتلال، فضلًا عن المقاومة الفلسطينية، أكدوا مرارًا وتكرارًا وبشواهد معروفة أنها عملية "فلسطينية خالصة" من حيث التخطيط والتنفيذ، بل إن مصادر في الحزب وطهران أوردوا في بعض التسريبات ما يمكن اعتباره عتبًا على عدم إحاطتهم بالمعركة مسبقًا.
كما أن هذه السردية تتجاهل أيضًا فكرة أن حزب الله قد فتح ما أسماه "جبهة إسناد"، ويتجنب حتى اللحظة الدخول في حرب موسعة مع الاحتلال، وكذلك إيران التي اضطرت لتصعيد محسوب مع الاحتلال على غير رغبة منها، بعد أن سعى الاحتلال لتغيير قواعد الاشتباك بالتغول على مصالحها وشخصياتها القيادية.
وأخيرًا، هناك سردية مفادها أن حماس تخوض مفاوضات وقف إطلاق النار؛ بهدف الحفاظ على مصالحها في القطاع والاستمرار في إدارته؛ أي أنها تهدف إلى تحقيق مكاسب ومناصب متجاهلة الأوضاع الكارثية التي يعاني منها سكانه. هذه السردية المغرضة تتجاهل عن عمد أن حماس كانت قد تخلت عن الحكومة في اتفاق سابق، ودعمت مسار الوفاق الداخلي والانتخابات التي ألغاها أبو مازن، ودعت أكثر من مرة إلى إدارة مشتركة للقطاع، ونادت منذ بداية الحرب بالشيء نفسه.
مَن المستفيد؟
تتجاهل كل هذه السرديات مسألة أساسية وجوهرية، وهي أن المقاومة الفلسطينية هي صاحبة القضية و"أم الولد" كما يُقال، وبالتالي فإن أي دعم حقيقي تحصل عليه من أي طرف يخدم القضية ولا يضرها. لكن الموقف السلبي من بعض الأطراف – والقصد هنا إيران و"محور المقاومة"، لأسباب محقة أو غير محقة – يجعل التقييم معكوسًا، والتقدير غير متزن وظالمًا إلى حد كبير. لدرجة أن البعض اتهم سابقًا حركة الجهاد الإسلامي بافتعال معارك مع الاحتلال لأهداف إيرانية، على الرغم من أن الاحتلال هو من بدأها باغتيال بعض قياداتها.
لا يوجد خلاف على أن النقد لفصائل المقاومة، السياسية منها والعسكرية، مفيد وضروري عندما يأتي في سياقه وتوقيته المناسبين وبالأسلوب الأمثل، وعندما يصدر من منطلق دعم المقاومة وتعزيزها، ولكن النقد شيء، والهجوم والاتهام والتحريض شيء آخر تمامًا.
في الحالة الفلسطينية وفي العالم العربي، هناك من يسعى بكل ما أوتي من قوة، وخاصة في وسائل الإعلام، لتشويه صورة المقاومة، وتحديدًا حركة حماس؛ بسبب خصومة سياسية أو خلاف أيديولوجي أو موقف مسبق أو لتصفية حسابات سياسية، والبعض الآخر من أجل مصالح ضيقة ومنافع مادية مباشرة. ولكن يجب على الجميع أن يدركوا عواقب ذلك وتداعياته، وهل يصب ذلك في خدمة الشعب الفلسطيني كما يُظن ويُدعى، أم يخدم الاحتلال ويساهم في إضفاء الشرعية على عدوانه واستدامته؟
تجري الإبادة على الجميع في قطاع غزة، وليس فقط على عناصر المقاومة، ويشمل الدمار والقتل والحصار والتجويع جميع الفلسطينيين. لذلك، فإن التماهي مع دعاية الاحتلال وتبني سردياته المشوهة للمقاومة عن قصد أو عن غير وعي يساهم في سفك دماء الفلسطينيين وليس في حمايتها، على عكس ما يُزعم، وهو ما يدفع إلى ضرورة التحذير والدعوة إلى إعادة النظر في التقييم والموقف من أصحاب النوايا السليمة والمقاصد النبيلة على أقل تقدير.